حقيقة المهدي في الشرائع الثلاث
الحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينِّ وَالصلاةُ والسلامُ على سيدِ المرسلينَ الهادي الأمين محمد عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأزكى التسليمِ:
أما بعدُ:
قال تعالى: ﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ±﴾ [التوبة: 111].
نعم يا ربِّ أشهِدَكَ أنِّي قبلتُ البيعةَ وبدأتُ في سلكِ الدعوةِ إلى اللَّهِ بعتُ نفسي ومالي وحياتي في سبيلِ الدعوةِ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ في عام 1992م.
بدأتُ السيرَ في طريق الدعوةِ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ وشعرت حينها بثِقَلِ الأمانةِ والمسؤوليةِ، وكانتِ الخطوةُ الأولى، تلقِّي دوراتٍ للداعيةِ المسلمةِ لمدةِ عامين متتاليين. حزتُ فيهما ببعضِ الأسسِ في طريقِ الدعوةِ إلى الصراطِ المستقيمِ لِكي أنطلقَ بعدهَا كمُدَرِّسةٍ في مدرسةٍ إسلاميةٍ لمادةِ التربيةِ الإسلاميةِ عام 1995م نعم بدأتُ في سلكِ التعليمِ الحلقةِ الثانيةِ للتعليمِ الأساسيِّ في لبنانَ وحزتُ في نهايةِ العامِ على إعجابِ المشرفينَ والقيِّمينَ على المدرسةِ ممَّا حدى بِهم تسليمي تدريسَ مادةِ التربيةِ الوطنيةِ لذلك وهي مادةٌ إلزاميةٌ في التعليمِ الأساسيِّ، وكمْ اكتسبتُ بِهذا من مهاراتٍ في هذا المضمارِ. ممَّا جعلِني لاحقاً ألتحِقُ بكليةِ الإمامِ الأوزاعيِّ للدراساتِ الإسلاميةِ، لشعوري إجازةٍ في العميقِ بأنَّ فاقدَ الشيءِ لا يُعطيهِ (خاصة وأنا حائزة على إجازةٍ في الهندسة المدنية)، ولا أخفي عليكم المجهودَ الذي بذلتُهُ لأصبَ أستاذة التربية الإسلاميةِ، وبدأتَ أنْهَلُ العِلمَ إمّا بدوراتٍ تأهيلية أو بدراسةِ جامعيةٍ ميدانية وغير ذلك إلى أن وصلتُ إلى ضرورةِ البِدءِ بالأبحاثِ التحضيريَّةِ لِنَيلِ درجةِ الماجستيرِ في الدّراسات الإسلاميةِ عامَ 1999م، فكانت عَناوينُ الأبحاثِ كالتالي:
عناوين الأبحاث التحضيرية | المشرفُ |
1 – السحرُ والكتابةُ بينَ الواقعِ والخيالِ
(نموذج تطبيقي) بحثٌ تمهيديٌّ لمرحلة الماجستيرِ في الدراساتِ الإسلاميةِ |
أ.د.إبراهيم أدهم |
2 – حقيقةُ المهديِّ بينَ التوافُقِ والاختلافِ
بحثٌ تمهيديٌّ لمرحلةِ الماجستير |
أ.د.زكريا المصري |
3 – داودُ عليه السلامُ في القرآنِ والعهدِ القديمِ (التوراة)
بحثٌ تمهيديٌّ لمرحلةِ الماجستيرِ |
أ.د.سهيل طقوش |
4 – مدَى الحقُّ الدينيُّ في طلاقِ الرَّجلِ
بحثٌ تمهيديٌّ لمرحلةِ الماجستير في الدراسات الإسلاميَّةِ |
أ.د.عبدالفتاح كبارة |
ثم انتقلتُ إلى مرحلةِ النِّقاشِ في مضمونِ الأبحاثِ وأبعادِهَا وطريقةِ ربطِهَا في واقعِ الأمةِ، علَها تقودُنَا إلى وَضعِ خُطةٍ تُسهِّلُ علينَا العبورَ إلى إيجادِ حلولٍ لمُشكلةِ أبناءِ هذهِ الأمةِ الراقدةِ في سُباتٍ عميق.
وبدأتُ المسيرَ مع دارِ الرَّشادِ أقدمُ لهم لائحةً بالمراجع والكُتُبِ فأحصلُ عليها بأسرع وقت مُمكنٍ وأنهيتُ خلالَ الفترةِ بين العام 2004م إلى العام 2010م الأبحاث الأربعةَ، وبدأتُ أضعُ أصبَعِي على جُرحِ الأمَةِ، فَتَوّجْتُ أبحاثِي برسالتي التي بينَ أيديكُم (حقيقةُ المهديِّ في الشرائعِ الثلاثِ).
لأَصلَ في نهايتها إلى الحقيقةِ التي يخافُ أنْ يعترفُ بها معظمُ العلماءِ اليومَ ألاَ وهيَ قولُ الحقِّ ولو أمام سلطانٍ جائرٍ. وحدّدْتُ السببَ في إشكاليةِ البحثِ وَهِيَ أَنَّ ما يلفِتُ النظرَ عندَ الاطِّلاعِ علَى مَا وردَ عِندَ أهلِ الكتابِ (يهودٍ ونصارَى) في حقيقةِ «الحاكمِ مِنْ عندِ اللَّهِ، تَمسّكُهُم بِهذهِ الفِكرةِ تَمسّكاً لا يقبلُ الجدلُ، فَهُمْ يعتبرونَ الحاكمَ في آخرِ الزمانِ هو من النّسلِ الداودِيِّ، المنتظَرِ في آخرِ الزَّمانِ، أمَّا بالنسبةِ للمسلمينَ فإنّ هذهِ الفكرةِ (الحاكم من عند اﷲ) الذي يأتي في آخرِ الزمانِ لم تَتَناولُ على نحوٍ مُلِحٍّ سوى من قِبَلِ فِرقٍ إسلاميةٍ معينةٍ.
وكثيرٌ من الناس لا يؤمنونَ بظهورِ المهديِّ أو الحاكمِ مِن عندِ اللَّهِ، أوِ الخليفَةِ أو المخلِّصِ في آخرِ الزمانِ عِلماً أنّ ذِكْرَهُ وَردَ في الأحاديثِ في حيِّزِ التواترِ المعنويِّ لِذَا فهذهِ الرسالةُ تَدورُ حولَ إبرازِ «الحقيقةِ» في ظهورِ المهديِّ عندَ الجميع [من أهلِ الكتابِ؛ اليهود والنصارى] وعندَ الفِرقِ الإسلاميةِ المختلفة والفِرق غيرِ الإسلاميةِ ليكونَ دافعاً إلى العودةِ إلى اللَّهِ سبحانَهُ وتَعالَى وشَرعِه.
وها أنا اليومَ أقدِّمُ لكمُ الطبعةَ الثانيةُ مِن كتابي «حقيقةُ المهديِّ في الشرائع الثلاثِ» بعدَ أنْ نفذَتْ أعداد الطبعةِ الأولَى ووجدتُ الكثيرُ منَ التشجيعِ والتقديرِ لكتابي هذا مِمّا زاد حماستِي في إعادةِ طبعهِ مع مَلاحقَ إضافيةٍ تزيدُ من المعطياتِ الإسلاميةِ الدقيقةِ لكلِّ مَن يرغبُ في الاطلاع على الكتابِ، آملةً توفيقَ اللَّهِ وتأييدَه، وشاكرةً كلَّ مَن قرأَ وأدركَ الهدفَ مِن وراءِ هذا الكتابِ وشعرَ بضرورةِ العملِ الصَّادقِ من أجلِ تواجدِ بيئةٍ إسلاميةٍ حقةٍ تؤمنُ باللَّه وتسعَى لنشرِ الأمنِ والأمانِ والسَّلامِ بين عباد اﷲ كافة.
وفي الختامِ أتوجهُ بالشكرِ الجزيلِ لكليةِ الإمامِ الأوزاعيِّ التي رعتني طوالَ سنواتِ الدِّراسةِ بإطارِها التعليميِّ وأشكرُ القيِّمين علَى مكتبتها تلك الثروةِ المتميزةِ.
كما وأتقدمُ بِالشكرِ الجزيلِ لزوجي الشيخِ الإمامِ أحمد سعيد بصبوص لِما أولاني مِن مساندةٍ في جميع مراحلِ تحضيره رسالتِي هذهِ. كما وأدعو اﷲ الكريمَ أن يجزِيَ عنّي خيرَ الجزاءِ كُلَّ مَن أسهم بِطرح فكرةٍ أسهمتُ بإغناء رسالتي.
وأختِمُ كلامي بالصلاةِ والسلامِ على سيد المرسلينَ، جاعلةً آخرَ دعوانَا أنِ الحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ أن قَدَّرنِي علَى أداءِ هذا البحث، وجعلكُم عَليهِ شاهدينَ، وبإذنهِ تعالى منه مستفيدين، والسَّلامُ عليكُم ورحمةُ اللَّهِ وبركاتُه.
الحمد ﷲ الذي خلق فسوّى وقدّر فهدى، وشرّع لنا من الدين ما يرضاه، وبيّن لنا الحكمة من خلق الإنسان في القرآن الكريم، وهي استخلافه في الأرض، وتخويله فيها وابتلاؤه بها واستئمانه عليها لوقت محدود، وإلى يوم موعود، لا يعلمه إلا اﷲ، قال تعالى: ﴿آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ‘﴾([1]).
هكذا ابتلى اﷲ عز وجل الناس في الحياة، وجعل بعضهم فوق بعض درجات، كما جعلهم درجات في الفكر والقدرات، ليحتاج بعضهم إلى بعض وليرى كيفية تعاملهم وتصرفهم في حدود ما استخلفهم فيه، وما استرعاهم عليه، قال تعالى: ﴿وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ç﴾([2])، لذا قال تعالى للملائكة ﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ﴾([3])، والخليفة هو آدم عليه السلام، وذريته من بعده، خلقهم اﷲ تعالى للاختبار والابتلاء في هذه الدار، واقتضت حكمة اﷲ أن أنزل الأبوين من الجنة ليُظهر مقتضى أسمائه وصفاته فيهما وفي ذرّيتهما، أنزل الأبوين إلى دار تجري فيها عليهم أحكامه، فهو الملك الحق المبين، وهو الذي يأمر وينهى، ويكرم ويهين، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعزّ ويذلّ.
جعل اﷲ تعالى ابتلاء الإنسان من كمال حجته عليه، وبيان حكمته في اظهار آثار عدله في أعدائه وفضله في أوليائه. فالشيطان حين أبى أن يكون من الساجدين ورفض أن يدخل في جملة المقرّين بالخلافة العظمى التي كرّم اﷲ عز وجل بها الإنسان، تملّكه العلّو والاستكبار، وأظهر الاعتراض والاستنكار، وشكّ في حكمة ربّ العزة والجلال حسداً لآدم وذريته، وحقداً عليهم مستنكراً كيف فضّلهم اﷲ بمنزلة أعلى من مكانته.
انتصر الشيطان على آدم وزوجه، وأقنعهما بالأكل من الشجرة التي منعهما اﷲ تعالى من الاقتراب منها، فأزلّهما الشيطان وأخرجهما ممّا كانا فيه، قال تعالى: ﴿وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو
ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ﴾([1])، ﴿ قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون F﴾([2]).
شاء اﷲ أن تنتهي أحداث قصة آدم عليه السلام في الجنّة، بعدما تاب إلى اﷲ وأناب، فتاب اﷲ عليه واجتباه واصطفاه.
وأمر اﷲ سبحانه وتعالى بإهباط الثلاثة إلى الأرض، آدم وزوجه حواء، وعدّوه إبليس ليتمّ الإبتلاء في الأرض ولتحقق الحكمة الإلهية في استخلاف الإنسان في الأرض.
وبما أن اﷲ سبحانه وتعالى هو الخالق لهذا الكون وهو الملك وحده لا شريك له، وهو حاكمه ومدبر أمره، ولكي لا تكون لهذا الإنسان حجة بعد نسيانه ميثاق ربّه([3])، وهو في عالم الذّر، قال اﷲ له إنه سيرسل له رسلاً يذكّرونه بالحكمة التي خلقه اﷲ من أجلها، وكلّفه بمنهج شرعيّ يلتزمه فيما استخلفه واسترعاه واستأمنه وابتلاه بالتكليف بأن يفعل أموراً محدّدة ولا يفعل أموراً أخرى، قال تعالى: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز 9﴾([4]).
وبيّن اﷲ في كتابه أنه سخّر للإنسان كل ما في هذا الكون ليعمر هذه الدنيا، وليطبّق نظام اﷲ وحكمه وشرعه، وليحكم بين الناس بحسب شرع ارتضاه اﷲ للناس من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.
([1]) البقرة: 36.
([2]) البقرة: 38.
([3]) روى الإمام أحمد أثراً عن أُبي بن كعب، في قول اﷲ عز وجل: ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين : 172!! أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون : 173!!﴾ قال: «جمعهم فجعلهم أرواحاً، ثمّ صورهم، فاستنطقهم فتكلموا، ثمّ أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قال: فإني أُشهِدُ عليكم السموات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري، ولا ربّ غيري فلا تشركوا بي شيئاً، وإني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، قالوا: شهدنا بك ربّنا وإلهنا، لا ربّ لنا غيرك، فأقروا بذلك». مسند الإمام أحمد (20726) والحاكم في المستدرك 2353 (3255) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
([4]) الحديد: 25.
([1]) الحديد: 7.
([2]) الأنعام: 165.
([3]) البقرة: 30.
د.شيرين خورشيد
بيروت في 19-6-2014