مقطتفات من كتاب حقوق المرأة المسلمة وواجباتها
تمهيد:
قبلَ الحديث عنِ الحقوقِ والواجباتِ، فلنوضّحْ معنى الإسلامِ والدِّينِ والعبادةِ.
قال تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: 135].
وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 161].
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حقّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج: 77 ـ 78].
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 130 ـ 132].
وقال تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النّبيونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ * قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 136 ـ 140].
لماذا سمِّيَ الدِّينُ بالإسلامِ وما هي حقيقةُ الإسلامِ؟:
ــ معنى الإسلام:
من المعلومِ أنّ كلّ شيءٍ في هذا الكونِ، منقادٌ لقاعدةٍ معيّنةٍ، وقانونٌ خاصٌّ، فالشمسُ والقمرُ والنُّجومُ مسخّراتٌ تحت قاعدةٍ مطّردةٍ، لا قبلَ لها بالحراكِ عنها والخروج عليها ولو قيدَ شعرةٍ، والأرضُ تدورُ حولَ قطبِها، ولا يدبُّ في ما قدّر لها من الزَّمنِ والحركةِ والطريقِ، دبيبَ التغييرِ والتبدُّل، والماءِ والهواءِ والنورِ والحرارةِ كلِّها مذعنةً لنظامٍ إلهيّ خاص… وللجماداتِ والنباتاتِ والحيواناتِ ضابطةً، لا تنمو ولا تنقصُ ولا تحيا ولا تموتُ إلَّا بموجبِها. حتى إنَّ الإنسانَ نفسَه إذا تدبّرت شأنَه، تبيّن لك أنّهُ مذعنٌ لسننِ اللهِ إذعاناً تامّاً، فلا يتنفّسُ ولا يحسُّ حاجَته إلى الماءِ والغذاءِ والنورِ والحرارةِ إلَّا وفقاً لقانون اللهِ المنظّمِ لحياتِه. ولهذا القانونِ نفسِه ينقادُ الإنسانُ في حركتِه، ودمِه في دورانِه، ونَفَسُهُ في دخولهِ وخروجِه، وله تستسلمُ جميعُ أعضاءِ جسدهِ كالدماغِ والمعدةِ والرئةِ والأعصابِ والعضلاتِ واليدين والرجلين واللسانِ والعينين والأنفِ والأذنِ. فليستِ الوظائفُ التي تؤدِّيها هذه الأعضاءُ كلُّها إلّا بما قدَّره اللهُ لها، وهي لا تقوم بها إلّا بحسبِ ما قُرّرَ لها من طريقٍ.
فهذا القانونُ الشاملُ، الذي يستسلمُ له كلُّ شيءٍ ولا ينفكُّ عن طاعتهِ شيءٌ في هذا الكون: من أكبرِ سيّارةٍ في السماءِ إلى أصغرَ ذرّةٍ منَ الرملِ في الأرض، هو من وضعَ مَلِكٌ جليلٌ مقتدرٌ. فإذا كانَ كلُّ شيءٍ في السماواتِ وما بينهما منقاداً لهذا القانون، فإنَّ العالمَ كلَّه مطيعٌ لذلك الملكِ المقتدرِ الذي وضعَه، ومتّبعٌ لأمرِه. ويتبيّنُ من هذه الجهةِ، أنَّ الإسلامَ دينُ الكونِ طرًّا، لأنَّ الإسلامَ معناهُ الانقيادُ والامتثالُ لأمرِ الآمرِ ونهيهِ بلا اعتراضٍ. فالشمسُ والقمرُ والأرضُ مسلمةٌ، والهواءُ والماءُ والنورُ والظلامُ والحرارةُ مسلمةٌ، والشجرُ والحجرُ والأنعامُ مسلمةٌ، بلْ إنَّ الإنسانَ الذي لا يعرفُ ربَّه ويجحدُ وجودَه وينكرُ آياتِه، أو يعبدُ غيرَه، ويشركُ به سواهُ، هو مسلمٌ من حيثُ فطرتِه التي فُطِرَ عليها. وذلكَ أنَّه لا يولدُ ولا يحيا ولا يموتُ إلا وِفْقاً لما وضَع اللهُ تعالى من قانونٍ لولادتِه وحياتِه وموتِه.
وكذلك كلُّ أعضاءِ جسدِه، لا تدينُ إلّا دينَ الإسلامِ، لأنَّها لا تنشأُ ولا تكبرُ ولا تتحرّكُ، إلَّا بحسبِ هذا القانونِ الإلهيِّ نفسِه.
بل الحقُّ أنَّ لسانَه الذي يستخدُمه في إبداءِ آراءِ الشركِ والكفرِ جهلاً وسفهاً، لا يدينُ، في نفسِه، إلَّا بديِن الإسلامِ. وكذلك رأسُه الذي يُكْرهه على الانحناءِ لغيرِ اللهِ، لا يدينُ إلَّا: بدينِ الإسلامِ بسائقِ فطرتهِ التي فُطرَ عليها وكذلكَ قلبَه الذي يعمُره بحبِّ الآخرين من دونِ اللهِ وإجلالِهم جهلاً وسفهاً، إنْ هو إلَّا مسلمٌ من لدنْ فطرتِه وسجيّتِه. فكلٌّ قدْ أسلمَ للهِ، وانقادَ لقانونِه. وللإنسانِ في حياتِه جهتان مختلفتان:
الأولى: إنّه منقادٌ لقانونِ الفطرةِ ومجبولٌ على اتِّباعِه.
الثانية: إنّه أوتيَ العقلَ وقوّةَ الفهمِ والتأمّلِ والرَّأيِ، فهو يسلمُ بشيءٍ وينكرُ آخرَ، ويحبُّ طريقاً ويكرهُ غيرَه، ويضعُ من تلقاءِ نفسِه ضابطاً لمختلف نواحي الحياة، أو يقبلُ بما وضعَه غيرُه من نظامٍ للحياةِ، فهوَ غيرُ مقيّدٍ في هذهِ الدنيا بلْ هوَ قد أوتيَ حريّةَ الفكرِ وحريّةَ الاختيارِ في الرأيِ والعملِ.
فمنَ الجهةِ الأولى: هو مسلمٌ قدْ جُبِلَ على الإسلامِ وفُطِرَ على التزامِه، شأنَ غيرهِ منَ المخلوقاتِ في هذا الكون.
ومنَ الجهةِ الأخرى: هوَ بالخيارِ في كونهِ مسلماً أو غيرَ مسلمٍ. وهذه الخيرةُ هي التي تجعلُ الإنسانَ على نوعين:
إنسانٌ يعرفُ خالَقه، ويؤمنُ به ربّاً ومالكاً وسيّداً له، ويتّبع قانونَ اللهِ الشَّرعيّ في حياته الاختياريّة. كما هو تابعٌ لقانونهِ الطبيعيِّ في حياتِه الجبريّةِ، وهذا هوَ المسلمُ الكاملُ الذي استكملَ إسلامَه، لأنَّ حياتَه أصبحَتِ الآنَ الإسلامَ بعينهِ، وهو قد استسلمَ رغبةً وطواعيَّةً للذي كان يطيعُه وينقادُ لقانونهِ منْ غيرِ شعورٍ منْ قبلُ، وقدْ أصبحَ الآنَ، قصداً وعمداً، مطيعاً لربّه الذي كانَ قبلَ ذلكَ يطيعُه من غيرِ قصدٍ ولا إرادةٍ، وقدْ أصبحَ علمُه صادقاً، لأنّه عرفَ اللهَ خالقَه وبارئَه الذي أولاهُ قوّةَ العلمِ والتعلّمِ، وأصبحَ عقلُه ناضجاً ورأيُه سديداً لأنَّه أعملَ فكرَه ثمَّ قضى ألّا يعبدَ إلَّا اللهَ الذي أكرمَه بموهبة الفهمِ والَّرأيِ في الأمورِ، وأصبحَ لسانُه صادقاً ناطقاً بالحقّ، لأنّه يقرّ الآن بربٍّ واحدٍ هو اللهُ تعالى الذي أنعمَ عليه بقوّةِ النّطقِ والكلامِ… فكأنّ حياتَه ما بقيَ فيها الآنَ إلا الصِّدقَ، لأنَّه منقادٌ لقانونِ اللهِ فيما له الخيرةُ من أمره، وامتدّت بينه وبين سائر المخلوقات في الكون آصرة التعارف والتآنس، لأنه لا يعبد إلا الله الحكيم العليم، الذي تعبده وتذعن لأمره وتنقاد لقانونه المخلوقات كلّها. فهو الآن خليفة الله في الأرض على وجه الابتلاء.
وهذه هي حقيقةُ الإسلامِ، وهذا هو معنى الإسلام، وإنّه لا يختصُّ هذا المسمّى بأمّةٍ دون أمّةٍ، ولا بقطرٍ دونَ قطرٍ، ولا بزمنٍ دون زمنٍ، فكلُّ ما في هذا الكونِ مستسلمٌ للهِ الواحدِ القهّارِ.
معنى الدين([1]):
تُستعملُ كلمةُ الدينِ في كلامِ العربِ بعدَّةِ معانٍ([2]):
- القهرُ والسلطةُ والحكمُ والأمرُ والإكراهُ على الطَّاعةِ، واستخدامُ القوّةِ القاهرةِ فوقَه، وجعلُه عبداً مُطيعاً فيقولون: [دانَ النّاسَ]، أي: قهَرهُم على الطاعة، وجاء في الحديث النبويِّ، صلى الله عليه وسلم: “الكَيِّسُ مَنْ دانَ نفسَه وعَمِلَ لِما بَعْدَ الموت”([3])، أَيْ: قَهَرَ نَفْسَه وذَلَّلَها، ومِنْ ذلك يُقال: [دَيّانٌ] للغالِبِ القاهِرِ على قُطرٍ اَو أُمّةٍ أَو قبيلةٍ والحاكِمُ عَلَيْها.
- الطّاعَةُ العَبدِيّةُ والخِدْمَةُ والتَّسَخُّرُ لأَحد، أي: الائتمارُ بأمرِ أَحد، وقَبولُ الذِلّةِ والْخُضوعِ تحتَ غَلَبَةِ أَحدٍ وَقَهرهِ. بِهذا الْمَعنى، قالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “كَلِمَةً تَقولونها تَدينُ لكم بِها العرب”، أي: تُطيعكم وتَخْضَعُ لَكُمْ.
- الشرعُ والقانونُ والطريقةُ والمذهبُ والْمِلّةُ والعادَةُ والتقليد، أيْ: مَنْ كانَ على طريقةٍ وعاداتٍ اتًبَعَها (قومٌ)، ومِنْ ذلك، قولُ الله تعالى عن يوسف عليه السّلام: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ [يوسف: 76]، يقول رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّهُ كانَ عَلى دينِ قَومِهِ”، أي: كانَ يَتّبِعُ الْحُدودَ والقواعدَ الرائجةَ في قومِهِ، في شؤونِ النِّكاحِ والطلاقِ والميراث، وغيرِ ذلكَ مِنَ الشؤونِ الْمَدَنِيَّةِ والاجْتِماعيةِ.
- الجزاءُ والمكافأةُ والقضاءُ والحِساب. فمِنْ أَمثالِ العرب [كما تَدينُ تُدان].
استعمالُ كلمةِ دينٍ في القرآنِ الكريمِ:
إِنَّ كلمةَ (الدينِ) قائمٌ بُنْيانُها على معانٍ أَربعة:
أولاً: القَهرُ والغَلّبةُ مِنْ ذي سُلْطَةٍ عُليا.
ثانياً: الطَّاعةُ والتعَبُّدُ والعَبَدِيَّةُ مِنْ قِبَلِ خاضعٍ لذي السُّلطة.
ثالثاً: الحدودُ والقوانينُ والطريقةُ التي تُتَّبَع.
رابعاً: الْمُحاسبةُ والقضاءُ والْجَزاءُ والعِقاب.
كلمةُ (الدّينِ) في القرآنِ، تقومُ مَقامَ نِظامٍ بِأَكْمَلِهِ، يَتَرَكّبُ مِنْ أَجْزاءٍ أَربعةٍ هي:
- الحاكِمِيّة والسُلْطَةُ العُليا.
- الطاعةُ والإِذعانُ لِتلكَ الحاكِمِيَّةِ والسُلْطة.
- النظامُ الفِكريُّ والعَمليّ، الْمُتَكوِّنُ تَحْتَ سُلطانِ تِلْكَ الحاكِمِيّة.
- المكافأةُ التي تُكافِئُها السُلْطَةُ العُليا عَلى اتِّباعِ ذلكِ النِّظام والإِخْلاصِ له، أو عَلى البَغْيِ عَلَيْهِ وَالعِصيانِ له.
الدينُ بالمعنى الأول والثاني:
﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: 64 ـ 65].
﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الزمر: 11 ـ 12].
﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾ [النحل: 52].
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [آل عمران: 83].
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].
في جميعِ هذهِ الآياتِ، وَرَدتْ كلمةُ (الدّين) بمعنى السُّلْطَةِ العُليا، ثُم الإذعانِ لتلكَ السُّلْطَةِ، وقَبولِ طاعَتِها وَعَبَدِيَّتِها، والمرادُ بإِخلاصِ الدينِ لله، ألَّا يُسلِمَ الْمَرْءُ لأَحَدٍ مِنْ دونِ اللهِ بالحاكِمِيَّةِ والْحُكْمِ والأَمْرِ، ويُخْلِصَ طاعَتَهُ وَعبوديَّته للهِ تَعالى، إِخلاصاً لا يَتَعَبَّدُ بعدَهُ لِغَيْرِ اللهِ، ولا يُطيعُه إِلا طاعةً لله.
الدينُ بالمعنى الثالث:
﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 40].
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30].
﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21].
﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6].
فالمرادُ بالدِّينِ في جَميعِ هذه الآياتِ، هو: القانونُ والْحُدودُ والشَرعُ والطَّريقَةُ والنِّظامُ الفِكْريُّ والعَمَلِيُّ الذي يَتَقَيَّدُ بِهِ الإِنْسان.
فإن كانتِ السُّلطةُ التي يَستَنِدُ إِلَيْها الْمَرْءُ لاتِّباعِهِ قانوناً مِنَ القَوانين، أو نِظاماً مِنَ النُّظُمِ سُلْطَةَ الله، فَالْمَرْءُ لا شَكَّ في دينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وأمّا إِنْ كانتْ تَلْكَ السُلْطَةُ سُلْطَةَ مَلِكٍ مِنَ الْمُلوك، فالمرءُ في دينِ الملِك، وإِنْ كانَتْ سُلْطَةَ المشايخِ والقُسوس، فهو في دينهم. وكذلك إِنْ كانتْ تِلْكَ السُلْطَةُ سُلْطَةَ العائِلةِ أو العَشيرةِ أو جَماهيرِ الأُمة، فَالْمَرْءُ لا جَرَمَ في دينِ هَؤلاء، وموجَزُ القَوْلِ: إِنَّ مَنْ يَتَّخِذُ المرءَ سَنَدَه أَعلى الإسناد، وحُكْمَهُ مُنْتَهى الأَحكامُ، ثُمَّ يَتَّبِعُ طَريقاً بِعَيْنِهِ. فَإِنَّهُ ـ لا شَكَّ ـ بِدينِهِ يَدين.
الدينُ بالمعنى الرابع:
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات: 5 ـ 6].
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الانفطار: 17 ـ 18].
الدينُ: الْمُصْطَلَحُ الجامِعُ الشّامِل:
يَسْتَعملُ القرآنُ كلمةَ الدِّينِ مصطلحاً جامعاً شاملاً، يُريدُ به نِظاماً لِلحياة، يُذْعِنُ فيه المرءُ لِسُلْطَةٍ عُليا، لكائنٍ ما، ثم يَقْبَلُ إِطاعَتَهُ وَاتِّباعَهُ، وَيَتقَيَّدُ في حَياتِهِ بِحُدودِهِ وَقَواعِدِه وقَوانينهِ، وَيَرجو في طاعته العِزةَ والتَرقّي في الدَّرجات، وحُسنَ الجَزاء، ويَخْشى في عِصيانِه الذِلّة والْخِزْي وسوءَ العِقاب.
قال تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحقّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29].
قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: 19]. وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]. وقَولِهِ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [الصف: 9].
المرادُ بِالدينِ في جَميعِ هَذه الآيات، هُوَ نِظامُ الحياةِ الكامِلُ، الشّامِلُ لِنواحيها الاعتِقادِيّة والفِكْرِيّة والخُلُقِيّةِ والعَمَلِية. وإنَّ نِظام الحياةِ الصحيحَ المرضيَ عندَ اللهِ تعالى هو النظام المبنيُّ على طاعةِ اللهِ وعُبودِيَّتِهِ. وأّمّا ما سِواهُ مِنَ النُّظُمِ المبنِيَّة على إطاعَةِ السُلطةِ المفروضَةِ مِنْ دونِ الله، فَإِنَّهُ مَردودٌ عِنْدَهُ، وذلك لأَنَّ الإنسانَ ما هو إلا مَخْلوقٌ مِنْ مَخْلوقاتِ الله تعالى.
معنى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾:
ومعنى الدّينُ في هذا الموضعِ: الطَّاعةُ والذِّلَّةُ، من قول الشاعر:
وَيَوْم الحُزن إذ حَشَدَت مَعَدٌّ | وكان النّاس إلا نحنُ ديناً |
يعني بذلك: مطيعين على وجه الذُّل.
الدِّينُ: الطَّاعةُ، وكذلك الإسلامُ، وهو الانقيادُ بالتذلُّلِ والخضوعِ وتركُ الممانعةِ فإذا كانَ ذلكَ كذلكَ، فتفسير قوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ إنَّ الطَّاعةَ هي الطَّاعةُ عندَه، الطَّاعةُ له، والإقرارُ بالألسنِ والقلوبِ له بالعبوديَّةِ والذِّلَّةِ، وانقيادِها له بالطَّاعةِ فيما أمرَ ونهى، وتذلُّلِها له بذلكَ من غيرِ استكبارٍ عليه ولا انحرافٍ عنه دونَ إشراكِ غيرِه من خلقِه معه في العبوديَّةِ والألوهيَّةِ فإذا كانَتْ طاعةُ المرءِ تابعةً لإطاعة الله تعالى، ومتضمِّنةً فيما قدْ رُسِمَ لها من الحدودِ، فإنَّها عينُ إطاعةِ اللهِ، فطاعةُ الولدِ لوالدِه وإطاعةُ المرأةِ لزوجِها، وإطاعةُ الخادمِ لسيِّدهِ وما شاكلَها من الإطاعاتِ، إنْ كانَتْ بأمرٍ منَ اللهِ ومتضمّنةً فيما قدْ وضعَ لها من الحدودِ فإنّها عينُ إطاعةِ اللهِ. وأمَّا إذا كانَتْ خارجةً عن تلكَ الحدودِ أو مستقلةً بذاتِها، فإنَّها البغيُ والعصيانُ. فجميعُ القوانين في أيّ نظامٍ يجبُ أنْ تكونَ مبنيةً على ما جاءَ منْ عند الله عزَّ وجلَّ ـ وقامَتْ بإنفاذِ حُكْمِ اللهِ في أرضهِ، فإنَّ إطاعتَها واجبةٌ، وإنْ لمْ تكنْ كذلكَ، بلْ كانَ أساسُها القوانينُ الوضعيَّةُ فإن إطاعتها جريمةٌ ومخالفةٌ لحكمِ اللهِ تعالى.
هذا هو الإسلامُ، دينُ الإنسانِ المفطورُ عليه، وهو كما قلْنا لا يختصُّ بأمَّةٍ دونَ أمَّةٍ، فكلُّ منْ عرفَ اللهَ يدينُ بدينِ الإسلامِ، وكلُّ منْ عرفَ اللهَ كانَ يتّبعُ قانونَه، وكلُّ منْ عرفَ الله سلكَ الصّراطَ المستقيمَ، في أيِّ زمنْ أو أمّةٍ أوْ قطرٍ، سواءً سمِّيَ دينُه بالإسلامِ أو بغيرِه منَ الألفاظِ بلسانِ قومه.
مفهوم العبادة:
العبادةُ([4]) في المفهومِ اللّغويّ العامّ: سلوكٌ إراديٌّ نفسيٌّ([5]) أو ظاهرٌ([6]) ذو دوافعَ باطنةٍ يُقْصَدُ به إرضاءُ معبودٍ يَرَى عابِدُهُ فيه أنّ له ربوبيّةً أو بعض تأثيراتِ ربُوبيَّةٍ بذاته أو بمعونةِ الرّب وإمداده وتمكينه، إنَّه الرَّبُّ المتَّصفُ بجميع الصّفاتِ: من الخلقِ والإمدادِ والتمكينِ والمعونةِ.
والعبادةُ في مفهومِ الدّينِ الرّبّانيّ الحقّ: هي سلوكٌ إراديٌّ نفسيٌّ أو ظاهرٌ ذو دوافع باطنةٍ يقصد به أداء ما يحبُّ الربّ عزَّ وجلَّ، وما يرضيه منهم، وما يقربهم إليه.
فخلق الله عزَّ وجلَّ النَّاس بصفاتِهم التي ميّزَهم بها، ووضعَهم في ظروفِ هذهِ الحياةِ الدُّنيا للامتحانِ ولتحقيقِ لوازِم هذا الامتحانِ والغايةِ منه.
ومنَ المعلومِ إنَّ الامتحانَ يستلزمُ بعدَ انتهاءِ ظروفِه المحاسبةَ والمحاكمةَ وفصلَ القضاءِ، وهذا يكونُ يومَ الدِّينِ. أمّا الغايةُ منه فهيَ الجزاءُ بالعدلِ في أحوالِ الإساءةِ والمعصيةِ، والجزاء بالفضل في أحوال الطاعة وفعل الخير والبرّ والإحسان([7]).
وقد دلَّ على أنَّ الغاية من الخَلْقِ الامتحانُ لتحقيقِ لوازمِه ثمّ لتحقيقِ الغايةِ منه، وكم من نصوصٍ متعدّدةٍ من القرآن المجيد:
قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 1 ـ 2].
ليبلوَكم: أي ليمتحنَكم ويختبرَكم.
والموتُ هو نهايةُ رحلةِ الامتحانِ في الحياةِ الأولى، وأمّا الحياةُ الأخرى فهي معدّةٌ في خطَّةٍ للحسابِ والمحاكمةِ وفصلِ القضاء.
وموادُ الامتحانِ أنواعٌ كثيرةٌ يصعبُ حصرُها ممّا يحبّ الإنسان وممّا يكره، وهي تتناول كلّ الحركات الإرادية في الإنسان: الجسدية، والفكرية والنفسية، والعاطفية والإيمانية.
أمّا المصائبُ والنّعمُ فهي من أنواع مواد الامتحان: الإيمانُ والكفرُ من موادِ الامتحانِ، ما يحبُّ الإنسانُ وما يكرهُ في الحياة من مواد الامتحان ـ النّاسُ بعضُهم ببعضٍ ممتحنون ـ الشهواتُ والغرائزُ والأهواءُ من موادِ الامتحانِ، المالُ والمطاعمُ والمشاربُ والمناكحُ والملابسُ من موادِ الامتحانِ ـ وهكذا.
وكلُّ ما جاء في النّصوص القرآنية من فعلَيْ: بلى وابتلى، ومشتقاتهما فقد جاء مقترناً بما يدلّ على نوع أو أكثر من أنواع مواد الامتحان.
ونظيرهما معظمُ ما جاءَ فيها من فعلِ “فتْن يفتنُ” ومشتقاتُه، إذا جاءَتْ في معظمِ النُّصوصِ بمعنى الامتحانِ، ومطلوبُ الرَّبِّ من عبادِه في هذا الامتحانِ هو أنْ يعبدوه وحدَه ولا يشركوا بعبادتِه شيئاً، وقد دلَّ على هذا المطلوبِ قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ في سورة الذاريات: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: 56 ـ 57].
ولمّا كانتِ العبادةُ اعترافاً لذي الكمالاتِ بكمالاتِه، ومقابلتُها بالحمدِ والثناءِ، واعترافاً لذي الأنعام بإنعامه، وأداءً لواجبِ الشكرِ عليها، كانَتْ واجباً تدعو إليه مكارمُ الأخلاقِ في النُّفوس، وكان رفضُها أو التَّقصير بها يمثّل جحوداً للحقّ، أو إهمالاً لأداء الواجب، وذلك من سوءِ الخلقِ النَّفسي.
التَّحقيقُ اللغويُّ([8]):
العبادة والعبوديّة والعبديّة، معناها اللغويُّ: الخضوعُ والتذلّل، أي: استسلامُ المرء وانقياده لواحدٍ ما، انقياداً لا مقاومةَ معه ولا عدولَ عنه ولا عصيانَ له، حتَّى يستخدمَه هو بحسبِ ما يرضى وكيفما يشاء.
وكلُّ خضوع ٍكاملٍ ليسَ فوقه خضوعٌ فهو عبادةٌ: طاعةً كان هذا للمعبودِ أو غيرَ طاعةٍ.
وعلى ذلك تقول العرب: (بعيرٌ معبّدٌ) للبعيرِ السّلس المنقاد و(طريقٌ معبّدٌ) للطريق الممهّد بكثرة الوطء.
المعنى اللغويُّ: نشأت في مادة هذه الكلمةِ معاني العبوديَّة والإطاعةِ والتألُّهِ والخدمةِ والقيدِ والمنعِ. فقد جاء في لسان العرب تحت مادة (ع ب د) ما نلخّصه فيما يلي:
- [العبدُ] المملوكُ خلاف الحرّ: [تعبّد الفردُ الرجلَ] أي اتخذَه عبداً أي مملوكاً أو عامله معاملَة العبدِ، وكذلك [عبَّد الرجلَ وأعبده واعتبدَه].
- [العبادةُ]: الطاعة معَ الخضوعِ: ويقالُ: [عَبَدَ الطاغوت]، أيْ: أطاعَه، و[إيَّاك نعبد]، أيْ: نطيعُ الطاعةَ التي نخضعُ معها، و[اعبدوا ربَّكم]، أيْ: أطيعوا ربّكم، و[قومُهما لنا عابدون]، وقال ابن الأنباريِّ: [فلانٌ عابدٌ] وهو الخاضعُ لربّه المستسلمُ المنقادُ لأمره.
- [عبدَهُ عبادةً ومَعْبَداً]: تألَّه له، و[التعبّد]: التَّنسّك، هو [المعبدُ] المكرمُ المعظّم: كأنَّه يُعْبد.
ويتَّضح من هذا الشرحِ اللغويِّ لمادّةِ (ع ب د) أنَّ مفهومَها الأساسيّ أن يُذعنَ المرءُ لإعلاءِ أحدٍ وغلبتهِ، ثمَّ ينزلُ له عن حرّيّتهِ واستقلالِه ويتركُ إزاءَه كلَّ المقاومةِ والعصيان وينقادُ له انقياداً كاملًا. وهذه هي حقيقةُ العبديّةِ والعبوديّةِ، ومن ذلكَ أوّلُ ما يتمثّل في ذهنِ العربيّ لمجرّد سماعهِ كلمة (العبد) و(العبادة) هو تصوّرُ العبديّة والعبوديّة. وبما أن وظيفةَ العبدِ الحقيقيّة هي إطاعةُ سيّده وامتثالُ أوامرِه، فحتماً يتبعه لصورِ الإطاعة. ثمَّ إذا كان العبد لم يقف به الأمر على أن يكون قد أسلم نفسه لسيّده طاعة وتذلّلاً، بل كان إضافةً إلى ذلك يعتقدُ بعلاءِ سيّدِه ويبالغُ في علوّ شأنِه، وكان قلبُه مفعماً بعواطف الشُّكرِ والامتنانِ على نعمِه وأياديه، فإنّه يبالغ في تمجيدهِ وتعظيمهِ ويتفنّنُ في إبداءِ الشُّكر على آلائه وفي أداء شعائر العبديّة له، وكلُّ ذلك باسمِ التألّه والتنسّكِ، وهذا التصوّر لا ينضمُّ إلى معاني العبديّة إلا إذا كان العبد لا يُخضع لسيده رأسه فحسب، بل يُخضعُ معهُ قلبَه أيضاً، وأمَّا المفهومان الباقيان فإنهما تصوُّران فرعيّان لا أصليّان للعبديّة.
استعمال كلمة العبادة في القرآن([9]):
وإذا عدْنا إلى القرآن بعدَ هذا التحقيق اللغوي فإنَّا نرى أنَّ كلمةَ “العبادة” قد وردت فيه غالباً في المعاني الثلاثة الأولى، ففي بعض المواضع قدْ أريدَ بها المعنيان الأوَّل والثاني معاً، وفي الأخرى المعنى الثاني وحده، وفي الثالثة المعنى الثالث فحسب، كما قد استعملت في مواضع أخرى بمعانيها الثلاثة في آنٍ واحدٍ، أمّا أمثلةُ ورودِها في المعنيين الأوَّلِ والثاني في القرآن فهي:
﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ [المؤمنون: 45 ـ 47].
﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: 22].
والمرادُ بالعبادةِ في كلتا الآيتين هو العبوديّةُ والإطاعةُ.
العبادةُ بمعنى العبوديةِ والإطاعةِ([10]):
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: 172].
إنَّ المناسبة التي أنزلت بها هذه الآيةُ هي أنَّ العرب قبلَ الإسلام كانوا يتقيّدون بأنواع من القيود في المآكل والمشارب، امتثالاً لأوامر أئمّتهم الدّينييّن واتّباعاً لأوهام آبائهم الأوَّلين، فلمَّا أسلموا قال الله تعالى: إن كنتُم تعبدونَني فعليكم أن تحطّموا جميع تلك القيود وتأكلوا ممّا أحللناهُ لكم هنيئاً مريئاً. ومعناهُ: أنّكم إن لم تكونوا عباداً لأحبارِكم وأئمّتِكم، بل عباداً لله تعالى وحده، وإنْ كنْتُم قد هجرتُم طَاعَتهم إلى طاعتهِ، فقد وجبَ عليكم أن تتّبعوا ما وضَعه اللهُ لكم من الحدودِ، لا ما وضعوه في الحلال والحرام والجائزِ والمحظورِ، ومن ذلكَ جاءَتْ كلمة “العبادةِ” في هذا الموضعِ أيضاً في معاني العبوديّة والإطاعة.
﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: 60].
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: 36].
﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي﴾ [الزمر: 17].
والمراد بعبادةِ الطَّاغوتِ في كلٍّ من الآياتِ الثلاثِ هو العبوديّةُ للطّاغوت وإطاعته. ومعنى الطاغت في اصطلاح القرآن: كلُّ دولةٍ أوْ سلطةٍ وكلُّ إمامةٍ أو قيادةٍ تبغي على الله وتتمرّد، ثم تنفَّذُ حكمَها في أرضِه وتحملُ عبادَه على طاعتِها بالإكراهِ أوْ بالإغراءِ أو بالتَّعليم الفاسد، فاستسلامُ المرءِ لتلكَ السُّلطةِ وتلكَ الإمامةِ والزَّعامةِ، وتعبّدِه لها ثم طاعتُه إيَّاها، كلُّ ذلك منه عبادةٌ، ولا شكَّ للطاغوت!
العبادةُ بمعنى الطَّاعة([11]):
وخذْ بعد ذلك الآيات التي قد وردت فيها كلمةُ “العبادة” بمعناها الثاني فحسب؛ قال الله تعالى:
﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [يس: 60].
والظاهر أنّه لا يتألّه أحدٌ للشَّيطانِ في هذه الدُّنيا، بلْ كلٌّ يلعنُه ويطردُه من نفسه، لذلك فإنَّ الجريمةَ التي يصفُ بها الله تعالى بني آدم يوم القيامة ليست تألّههم للشَّيطان في الحياةِ الدُّنيا، بل إطاعتُهم لأمرِه واتّباعهم لحكمه وتسرّعهم إلى السبل التي أراهم إياها.
﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: 22 ـ 23].
﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ﴾ [الصافات: 27 ـ 30].
ويتَّضحُ بإتمام النظر في هذه المحاورة التي حكاها القرآن بين العابدين وبين ما كانوا يعبدون، إنَّ المراد بالمعبودين في هذا المقام ليست الآلهةُ والأصنامُ التي كان يتألَّه لها القوم، بلِ المرادُ أولئكَ الأئمَّةُ والهداةُ الذين أضلّوا الخلق متظاهرين بالنّصح، وتمثّلوا للنَّاس في لبوسِ القدّيسين المطهّرين، فخدعوهم بسبحاتِهم وجبّاتِهم وجعلوهم تبعاً لهم، والذين أشاعوا فيهم الشرّ والفساد باسم النّصح والإصلاح. فالتَّقليد الأعمى لأولئك الخدّاعين والاتِّباعُ الصَّادقُ لأحكامِهم هو الذي قدْ عبّرَ اللهُ عنه بكلمة العبادة في هذه الآية.
﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31].
والمراد باتخاذ العلماء والأحبار أرباباً من دون الله ثمّ عبادتُهم في هذه الآية هو الإيمان بكونهم مالكي الأمر والنَّهي، والإطاعة لأحكامهم بدون سندٍ منْ عندِ اللهِ أوِ الرسولِ، وقد صرّح بهذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه في الأحاديث الصحيحة، فلمّا قيل له: إنّنا لم نعبد علماءنا وأحبارنا، قال: ألمْ تحلّوا ما أحلّوه وتحرّموا ما حرّموه؟
العبادة بمعنى التألُّه([12]):
ولننظرْ بعدَ ذلكَ في الآياتِ التي وردتْ فيها كلمةُ “العبادة” بمعناها الثالث، وليكنْ منك على ذكرٍ في هذا المقام أنَّ العبادةَ بمعنى التألّه تشتمل على أمرين اثنين حسبما يدلّ عليه القرآن:
أوَّلُهما: أن يؤدّي المرء لأحد من الشعائر كالسُّجود والرُّكوع والقيام والطَّوافِ وتقبيلِ عتبةِ البابِ والنَّذرِ والنّسكِ، ما يؤدّيه عادةً بقصد التألّه والتنسّك، ولا عبرةَ بأنْ يكونَ المرءُ يعتقدُه إلهاً أعلى مستقلًّا بذاتِه، أو يأتي بكلِّ ذلك معتقداً إيّاه وسيلةً للشَّفاعةِ والزُّلفى إليه أو مؤمناً بكونه شريكاً للإله الأعلى وتابعاً له في تدبيرِ أمرِ هذا العالم.
والثَّاني: أنْ يظنَّ المرءُ أحداً مسيطراً على نظام الأسباب في هذا العالم ثمّ يدعوه في حاجتِه ويستغيثُ به في ضرِّه وآفتِه، ويعوذُ به عندَ نزولِ الأهوالِ ونقصِ الأنفسِ والأموالِ.
فهذان الوجهان من عملِ المرءِ كلاهما داخلٌ في معاني التألّه، والشَّاهد بذلك ما يأتي من آيات القرآن:
﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: 66].
﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾ [مريم: 48 ـ 49].
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: 5 ـ 6].
﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ [سبأ: 41].
﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ [الجن: 6].
فيتبيّن منه أنَّ المراد بعبادةِ الجنِّ هو العياذُ بهم واللجوءُ إليهم في الأهوالِ ونقصِ الأنفسِ والأموالِ، كما أنَّ المراد بالإيمان بهم هو الاعتقادُ بقدرتهِم على الإعاذةِ والمحافظة.
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ [الفرقان: 17 ـ 18].
ويتجلَّى من أسلوبِ هذه الآية أنَّ المقصودَ بالمعبودين فيها هم الأولياءُ والصّلحاءُ، والمرادُ بعبادتِهم هو الاعتقادُ بكونهم أجلُّ وأرفعُ من خصائصِ العبديّة والظَّنُّ بكونِهم متّصفين بصفات الألوهيّة وقادرين على الإعانة الغيبيّة وكشف الضرِّ، والإغاثةِ، ثمَّ القيامِ بينَ يديْهم بشعائرِ التَّكريمِ والتَّعظيمِ ممّا يكاد يكون تألّهاً وقنوتاً:
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ [سبأ: 40 ـ 41].
والمقصودُ بعبادة الملائكةِ في هذهِ الآية هو التألّهُ والخضوعُ لهياكلِهم وتماثيلِهم الخياليّة، كما كانَ يفعل القوم في الجاهليَّة، وكان غرضُهم منْ وراءِ ذلك أنْ يرضوهم، فيستعطفوهم ويستعينوا بهم في شؤونِ حياتهم الدُّنيا.
﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: 18].
﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ [الزمر: 3].
والمرادُ بالعبادة في هذه الآية أيضاً هو التَّألّهُ، وقد فصّلَ فيها أيضاً الغرضُ الذي كانوا لأجلهِ يعبدونهم.
العبادة بمعنى العبديّة والإطاعة والتألّه([13]):
ويتّضحُ كلَّ الوضوحِ من جميعِ ما تقدّمَ منَ الأمثلةِ أنَّ كلمة “العبادة” في القرآن قد استعملَتْ في بعضِ المواضعِ بمعنيي العبوديَّة والإطاعةِ وفي الأخرى بمعنى الإطاعةِ فحسب، فالثالثة بمعنى التألّه وحده. والآن وقبل أن نسوق لكِ الأمثلة التي قد جاءت فيها كلمة “العبادة” شاملةً لجميع تلك المعاني الثلاثة، لا بدَّ من ذكر بعض الأمور الأوّليّة.
إنَّ الأمثلة التي سردناها آنفاً، تتضمّن جميعاً ذكرَ عبادةِ غيرَ الله، أمّا الآياتُ التي وردت فيها كلمة “العبادة” بمعنى العبوديّة والإطاعة، فإنَّ المرادَ بالمعبودِ فيها إمَّا الشَّيطانُ، وإمَّا الأناسُ الباغون الذين جعلوا أنفسَهم طواغيت، فحملوا عباد الله على عبادتهم وإطاعتهم بدلاً من عبادة الله وإطاعته، أو هُمْ الأَئِمَّةُ والزُّعماءُ الذين قادوا النَّاس إلى ما اخترعوه من سبلِ الحياةِ وطرقِ المعاشِ جاعلين كتابَ الله وراء ظهورِهم. وأمَّا الآياتُ التي قد وردت فيها “العبادة” بمعنى التألّه، فإنَّ المعبود فيها عبارةٌ إمَّا عن الأولياءِ والأنبياءِ والصُّلحاءِ الذين اتَّخذَهم القومُ آلهةً لهم على رغمِ أنفِ هدايتِهم وتعليمِهم، وإمَّا عن الملائكةِ والجنِّ الذين اتَّخذَهم القوم، لسوءِ فهمهم، شركاءَ في الرُّبوبيَّة المهيمنةِ على قانونِ الطبيعة. أو هو عبارةٌ عن تماثيلِ القوى الخياليّةِ وهياكلها، التي أصبحتْ وجهةَ عبادتِهم وقبلةَ صلواتِهم بمجرَّدِ إغراءٍ منَ الشَّيطان، والقرآنُ الكريمُ يُعدُّ جميع أولئكَ المعبودين باطلاً ويجعل عبادتَهم خطأً عظيماً سواء أتعبّدَهم النَّاسُ أوْ أطاعوهم أنْ تألّهوا لهم، ويقول: إنَّ جميع من طفقْتُم تعبدونهم هم عبادَ اللهِ وعبيدِه، فلا يستحقّون أن يُعبدوا ولا أنتم مكتسبون من عبادتِهم غيَر الخيبةِ والمذلّةِ والخزي، إن مالكَهم في الحقيقةِ ومالكَ جميع ما في السماواتِ والأرضِ هو اللهُ الواحدُ، وبيدِه كلُّ الأمرِ وجميع الصلاحيّات، ولأجلِ ذلك لا يجدرُ بالعبادةِ الحقّةِ إلا هو وحده.
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾ [الأعراف: 194 ـ 197].
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 26 ـ 28].
﴿وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: 19].
﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصافات: 158].
﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ [النساء: 172].
﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: 5 ـ 6].
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء: 44].
﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ [الروم: 26].
﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: 56].
﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: 93 ـ 95].
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 26].
وهكذا بعد أن يقيم القرآن البرهانَ على كونِ جميع من عبدَهمُ النَّاسُ بأيّ وجهٍ من الوجوه، عبيداً لله وعاجزين أمامه، يدعو جميع الأنسِ والجنّ إلى أنْ يعبدوا الله تعالى وحدَه بكلِّ معنًى من معاني “العبادة” المختلفة، فلا تكن العبديّة إلّا له، ولا يُطَع إلا هو، ولا يتألّه المرء إلّا له، ولا تكنْ حبَّةُ خردلٍ من أي تلكَ الأنواع للعبادةِ لوجهٍ غيرِ الله.
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: 36].
﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي﴾ [الزمر: 17].
﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [يس: 60 ـ 61].
﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: 172].
قد أمر اللهُ تعالى في هذه الآيات أن تختصّ له العبادة التي هي عبارةٌ عن العبديّة والإطاعة والإذعان، وقرينة ذلك واضحةٌ في الآيات، فإنَّ الله تعالى يأمرُ فيها أن اجتنبوا إطاعة الطاغوت والشَّيطان والأحبارِ والرهبانِ والآباءِ والأجدادِ واتركوا عبديّتهم جميعاً، وادخلوا في إطاعةِ اللهِ الواحدِ الأحدِ وعبديّته.
﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: 66].
﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60].
﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: 13 ـ 14].
﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [المائدة: 76].
أمر الله تعالى في هذه الآيات أن تختصّ العبادة بمعنى التألّه له، وقرينةُ ذلك أيضاً واضحةٌ في الآية، وهو أنَّ كلمةَ “العبادة” قد استعملت فيها مرادفةً للدُّعاء، وقد جاء فيما سبقَ وما لحقَ من الآياتِ ذكر الآلهة الذين كانوا يشركونهم بالله تعالى في الربوبيّة المهيمنة على ما فوق الطبيعة.
فالآن ليس من الصَّعبِ في شيءٍ على ذي عينين أن يتفطّنَ إلى أنَّه حينما ذكرت في القرآن عبادة الله تعالى ولم تكن في الآيات السَّابقة أو اللاحقة مناسبةً تحصر كلمةَ العبادةِ في معنى بعينهِ من معاني الكلمةِ المختلفة، فإنَّ المرادَ بها في جميع هذه الأمكنة معانيها الثلاثة: العبوديَّةُ والإطاعةُ والتَّألُهُ. فلننظر في الآيات التَّالية مثلاً:
﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14].
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الأنعام: 102].
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 104].
﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 40].
﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود: 123].
﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 64 ـ 65].
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
فلا داعي لأن تخصّ كلمةُ “العبادة” في هذه الآيات وما شاكلها بمعنى التألُّه وحده أو بمعنى العبديّة والإطاعة فحسب. بل الحقّ أنّ القرآن في مثل هذه الآيات يعرضُ دعوتَه بأكملها، ومن الظَّاهر أنَّه ليست دعوة القرآن إلَّا أن تكونَ العبديّة والإطاعة والتألّه، كل أولئك خالصاً لوجه الله تعالى.
ومن ثمّ إنَّ حصرَ معاني كلمةَ “العبادة” في معنى بعينهِ، هو حصرٌ لدعوةِ القرآنِ وتحديدٌ لها في معانٍ ضيّقةٍ، ومن نتائجه المحتومة أنَّ مَنْ آمنَ بدينِ اللهِ وهو يتصوّرُ دعوة القرآن هذا التَّصوّر الضّيّق الحدود، فإنّه لن يتّبع تعاليمه إلّا اتّباعاً ناقصاً محدوداً.
لا وساطَة في العبادةِ بينَ العبد وربّه([14]):
ممّا امتازت بهِ العباداتُ في الإسلام أنّها صلةٌ مباشرةٌ بينَ العبدِ وربِّه، فليس فيها وساطةُ مخلوقٍ ما من مخلوقاتِ اللهِ، مهما كانت منزلته عند ربّه، فليس لرئيسٍ دينّي وساطة، ولا لملِكٍ، ولا لنبيٍّ ولا لرسولٍ، وأَجلُّهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم وهو حاملُ رسالةٍ عن ربّه يُبَلّغُها للنَّاس، فلا يكونُ في عبادةِ العبادِ لربّهم وسيطاً بينَهم وبينَه، غاية ما أُذِنَ له به أن يَسْتَغفِر لهم، وأن يَدْعُو لهم، وأعطاهُ اللهُ الشَّفاعةَ يوم الدين.
حتّى إكرامُ الرسولِ وتعظيمُه وتوقيرُه ومحبّتُه كلُّها تعامُلٌ مع اللهِ وسبيلٌ للظفرِ برضوانهِ وثوابُه العظيم، كما قال الله عزَّ وجلَّ في سورة [الفرقان: 25، مصحف: 42 نزول] لرسوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا﴾، أي: إلاّ من شاء أن يتَّخِذَ إلى رَبّه سبيلاً يُحَقِّقُ به رضوانه وثوابه العظيم فإنّه يُقدِّم إلى رسولهِ شيئاً، كالصَّلاةِ عليه، ومحبّته وتوقيره وتعظيمه، وإكرامِه في حياته، وإكرامِ آله.
والمناجاة في العبادة تكون مع الله مباشرةً، وحظُّ الرَّسولِ من صلواتنا أنْ نخاطبه بالصَّلاة والتَّسليمِ، باعتبارِ أنّه مبلّغٌ رسالةَ ربّه، وأنْ ندعوَ له جزاءَ ما قدّم لأُمَّتِه من خيرٍ، وما تحمّل في سبيل هداية الناس من متاعبَ وآلام.
هذه الصّلة المباشرةُ بينَ العبدِ وربِّه في عباداتِه له هي الأمر الطبيعيُّ المنطقيُّ، المنسجم مع القاعدة الإيمانيَّةِ في الإسلام، إذْ إنّ القاعدةَ الإيمانيّة تتألّف من عناصر لا تدخُلُ الوساطةُ في واحدةٍ منها، فمن هذه العناصر أنْ لا إله إلَّا الله، أيْ: لا معبودَ في الوجود بحقِّ إلاّ الله، ومنها أنَّ العبادةَ لا تكون إلّا لله عزَّ وجلَّ بلا شريكٍ ولا وسيطٍ، وأنَّ اللهَ سميعٌ بصيرٌ عليمٌ بعبادِه قريبٌ منهم، وأنّه لا تخفى عليه منهم خافيةٌ، وأنّ عبادةَ غيرِه معه ولو على سبيل الوساطةِ شركٌ به، وأنّ الله جلّ جلاله أَغْنَى الشُّركاءِ عنِ الشّركِ، وأنّه لا يغفر أن يُشْرَكَ به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
فما الدَّاعي إذن لاتّخاذِ الوسطاءِ، وتوحيد اللهِ الحقِّ قائمٌ من أساسِها على حقيقة أنْ لا وساطةَ في الخلْقِ، بين الخالقِ والمخلوق؟
فاللهُ هو وحدَه الرّبُّ الخالق، فلا وساطةَ في الرُّبوبيّة، وهذا يلزم عنه أن لا تكون وساطةٌ في الإلهيَّةِ، فلا مُسْتَحِقُّ للعبادةِ غيرُ الله.
واللهُ عزَّ وجلَّ محيطٌ بكلِّ شيءٍ علماً، وهو على ما يشاءُ قديرٌ، فهو غنيٌّ عن الوسطاء.
وأنّه سبحانَه لا يَبْعد عن عاصٍ مُسْرفٍ على نفسه إذا تاب إلى ربّه وأناب، فلا حاجة للوسطاء.
لكلّ هذا لا نجدُ في العبادات في الإسلامِ أثراً لتدخُّلِ الوسطاءِ، لا منْ قريبٍ ولا من بعيدٍ، وفي هذا تحريرٌ كاملٌ من كلّ عبوديّة إلّا العبوديَّةُ لله عزَّ وجلَّ.
فالعابد لله حقاً يحرّر عملَه من قصدِ غيرِ اللهِ، ومن توجهِه لغيرِ الله.
إنّ النيّة في العبادة الصَّحيحة المقبولة هي ابتغاءُ مرضاةِ اللهِ، ومتى كانَتِ النّيّةُ لغيرِ اللهِ لمْ تكنِ العبادةُ عبادةٌ له، ومتى دخل فيها عُنْصُرٌ فإذا كان على وجه العبادة والتقرّب لهذا الشريك فسدَت العبادة، لأنّ الله عزَّ وجلَّ لا يقبل الشِّركةَ في عبادته، وإذا كانَ على غير وجهِ العبادةِ، كأن دخل فيها ملاحظةَ غرضٍ من أغراضِ الدُّنيا ومصلحةٍ من مصالحها حَبِطَ من العمل بمقدار العنصر المُشارك في النيّة، ويكون العمل عندئذ مشوباً بالرّياء، وهو من قبيل المتاجرة بالدين.
ولا نجد في التّلاوات والأذكار وسائر الأقوال والأعمال الثَّابتة في النُّصوص الإسلاميَّةِ أثراً للوسطاءِ بين العباد وبارئهم في كلِّ العبادات الإسلامية.
- فالتَّكبيرِ والتَّعظيم والثَّناء والتَّلبية كُلُّ ذلك لله، عزَّ وجلّ، وحده.
- والاستعانة والاستعاذة تكون بالله وحده.
- والدُّعاء يُوجّه له وحده لا شريك له، فلا يتوجّه المؤمنون في دعائهم لأيّ قوة أو ذاتٍ غيبيّة إلاّ لله، عزَّ وجلَّ، وحده، فلا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يلتجئون إلّا إليه.
- والرُّكوع والسجود والطّواف وذبحُ القرابين والأضاحي والهديِ، ونحو ذلك، كلُّ أولئك لله وحده، لا شيء من ذلك لغيرِ الله، وإلّا دخل الشّركُ في العبادة، أو دخل الرِّياء الذي هو من ظلالِ الشّركِ.
قال الله، عزَّ وجلَّ، في سورة [فصلت: 41، مصحف: 61 نزول]: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾.
وأبان الله، عزَّ وجلَّ، كذب ادِّعاءِ المشركين إذْ عَلَّلوا عبادتهم لشركائهم بأنّ هؤلاء الشركاء يقرّبُونهم إلى الله زُلفى، فقال تبارك وتعالى في سورة [الزمر: 39، مصحف: 59 نزول]: ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾.
ولا تكونُ العبادةُ المحضة فيما لم يأذن به الله، عزَّ وجلَّ ([15]) :
لا بدّ من التّنْبيه على أنّ العبادات المحضة التي تؤدّى بالأعمال والأشكال الجسديَّة والأقوال الخاصَّة لا تكون إلّا فيما شرعه الله لعباده، أو أذن لهم به، وذلك لئلا يختلفوا، ولئلَّا يخترعوا من عندِ أنفسهم أشكالاً من العبادات منافيةً للحكمة وللواقعيّة الإنسانيةِ، أو مصادمةً للحق والخير والفضيلة، أو مدخولةً بمعاني الشِّرك باللهِ، أو فيها إعناتٌ للأنفس ومشقَّاتٌ زائداتٌ على الأجسام، أو أضرارٌ ومفاسدُ وانتحاراتٌ، أو فيها أهواءٌ وشهواتٌ وإباحياتٌ، على اعتبارها ألواناً من العبادات، إلى غير ذلك ممّا تتشعّبُ له آراءُ النَّاس وأغراضهم وأهواؤهم وشهواتهم ومصالحهم، ومصالح الكهنة والسّدنَةِ وتُجَّارُ بيوتِ العبادةِ، والمشرفين على طقوسِها، وإدارةِ تطبيقاتها، وإدارَةِ مبانيها، وإدارَةِ الأموال التي تُجبى من أجلها.
وقد حدّد لنا الإسلام الأشكال والصُّور العمليّة والقوليّة التي نعبدُ الله بها، وأطلقَ لنا في الأذكار والأدعية العامَّة، بشرطِ أن لا تحلَّ محلَّ عبادةٍ منصوصٌ عليها، وأنْ لا تصادمَ أصلاً من أصول الدِّين، أو من أصول العباداتِ في الإسلام، وأنْ لا تكون بألفاظٍ غامضةٍ مجهولةِ المعاني لم تردْ في النُّصوص الدّينيَّةِ الثابتة، على أنَّ أفضلَ الأذكارِ والأدعيةِ ما جاءَ منها في القرآنِ المجيدِ، أو في السُّنَّةِ المطهَّرّة.
إنّ الابتداعَ في الّدينِ والاختراعَ في العباداتِ منزلقٌ خطيرٌ جدًّا، يستدرجُ إليه بصدقٍ إلى مواقِع الشرّكِ، أو دينِ اللهِ وتغييره، ومن هذا المنزلق الخطير استَدْرجَ الشَّيطانُ المشركين إلى الشِّركِ باللهِ، والمحرّفين لدين الله إلى تحريفاتهم، والمخرّفين إلى تخريفاتهم، والمغالين إلى غلوّهم.
ولما كان تشريعُ العبادات هو لله، عزَّ وجلَّ، وحده، وليس لغيره منه شيءٌ، فقدْ شرعَ لنا من الدِّينِ ما وصّى به الأنبياءُ السَّابقين، وما أوحاه إلى خاتم رسله مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلّم.
وجعلَ اللهُ، عزَّ وجلَّ، لكلّ أُمَةٍ ضمن عباداتهم لربّهم منسكاً هم ناسكوه، وأبان لنا مناسِكَنَا في الرسالة الخاتمة.
قال الله، عزَّ وجلَّ، في سورة [الحج: 22، مصحف: 103 نزول] خطاباً لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:
﴿وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [الحج: 68 ـ 69].
هذه هيَ دعوةُ إبراهيم ـ عليه السّلام ـ، فهو إمامُ النَّاس، هو وذريّتهُ الصَّالحون المسلمون، يؤمنون بالله الواحد الأحد، موحّدين الله، عزَّ وجلَّ، مؤمنين أنّ اللهَ واحدٌ لا شريكَ له في ذاتهِ، ولا في صفاتهِ، ولا في أفعالهِ، فهو سبحانه ربُّ العالمين خالق الكون ومدبّره، وهو المستحقّ للعبادة وحده. المستحقُّ وحده إفراده في الخلق، فالله وحده هو الذي خلقَ كلَّ هذا العالم، والخَلْقُ يقتضي الرزق والإحياء والإماتة والتَّدبيرَ واللهُ هو وحدُه القادرُ على ذلك والموكَّلُ به… فهو الخالقُ وحدَه لا شريكَ له، وهو المالكُ الحقيقيُّ لخلقِه.
الله سبحانَه له الخلقُ والأمرُ كلُّه: فلا خالقَ إلَّا الله، ولا رازقَ إلَّا اللهَ، ولا مدبّرَ إلَّا الله وحده، ولا مالكَ إلَّا الله، فإنَّ هذا يوجب تعلّق القلوبِ بالله، عزَّ وجلَّ، وحده والتوكّلَ عليه وحده وسؤاله والافتقار إليه فقطْ لأنَّه سبحانَه خالقُنا ورازقُنا ومالكُنا.
والمؤمنُ يؤمن أنه يجب أن يتّخذ الله سبحانه حكماً فلا يخضع لأيّ حكمٍ غيرَ حكمِ اللهِ، ولا لأمرٍ غيرَ أمرِ الله، ولا لقانونٍ غيرَ شرعِ الله، ولا لوضعٍ أو فهمٍ أو فكرةٍ لم يأذنْ بها الله، ومَنْ قبلَ شيئاً من ذلك فقدْ أبطلَ حقيقةً أساسيّةً من حقائقِ التَّوحيد، لأنَّه ابتغى غيرَ اللهِ حكماً: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا﴾ [الأنعام: 114]، وقال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ﴾ [يوسف: 40].
فإذا كان الله سبحانه هو الخالقُ الحاكمُ المشرّعُ فيجب أن تكون الطَّاعة والعبادة لله وحده. فالعبادة حقُّ الله على عباده وهي دعوة جميع الأنبياء والمرسلين: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].
وبعد هذا الشَّرح المفصّل لمعاني الإسلام والدّين والعبادة، عرْفتِ دونَ شكٍّ أنَّ العبادة هي حقٌّ لله على عباده، وأنَّه لا يجوز توجيهها لغير الله مطلقاً.
كما أننا ذكرنا أنَّ العبادة المحضة لا تكون فيما لم يأذنْ به الله عزَّ وجلَّ. فالعبادة التي تؤدَّى بالأعمال والأشكال الجسديّة والأقوال الخاصّة لا تكون إلّا فيما شرعه الله لعباده، أو أذنَ لهم به، وذلك لئلَّا يختلفوا، ولئلَّا يخترعوا من عنِد أنفسِهم أشكالاً من العبادات منافيةً للحكمة الإلهيّة وللواقعيَّةِ الإنسانيَّةِ، أو مصادمةً للحقِّ والخيرِ والفضيلةِ. وقد حدّدَ لنا الإسلام الأشكال والصُّور العمليّة والقوليّة التي نعبد الله بها، وأطلق لنا في الأذكار والأدعية العامَّة، شرط أن لا تحلّ محلّ عبادة منصوص عليها، ولا تصادم أصلاً من أصول الدّين، أو من أصولِ العباداتِ في الإسلام.
لذا سنبيّن لك أيَّتُها المرأة ما هي حقوقُكِ وما هي واجباتُكِ في هذا الكون الشاسع، لعلّك تُقبلين على الله بقلبك وعقلِكِ ونفسِكِ، وعساكِ تعلنين انتماءَكِ إِلى الأمَّةِ الرَّبّانية، بعدما نظرْتِ وتأمَّلْتِ وتفكَّرْتِ في هذا الكونِ وفي الآفاق وفي نفسِكِ.
أُخيّة: هلّا عقدت العزمَ على التعرّفِ إلى ما يحبُّ الله –جل جلاله- ويرضاه لعباده؟
هلّا استشعرتِ أهميّة رضاه فتلمّستِ سبلَ الوصولِ إلى ذلك؟!
هلْ تريدين الابتعادَ عنْ عقابَه وترجين ثوابَه الجزيل على التَّصديقِ بأركان الإيمان؟
أنَّكِ تعلمين أنّ لك بناءً عماداً أساسيّاً، وأنّ لكلّ بناءٍ أنظمةٌ وقوانينُ… فهلّا أعدْدتِ نفسَكِ لمعرفةِ أنظمةٍ وقوانينُ وحقوقِ كيانِكِ وشخصيَّتِكِ في المجتمع؟؟
في هذا الكتاب ستهيّئِين نفسَكِ وحواسَّكِ وتفكيرَكِ للسَّمعِ أيْ لسماعِ الأوامرِ والنَّواهي والتَّوجيهات والوصايا المنزلة من عند الله، أو الموجَّهة إليك من قبلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
أدعوكِ أيَّتُها المرأةُ المسلمةُ باسمِ الأخوَّةِ الإيمانيَّةِ بينَنا أن تستمعي بأحاسيسِكِ الرَّقيقة، ومشاعرِكِ الجيّاشة إِلى كلِّ ما يحبُّهُ اللهُ ويرضاه منك، بذلك تفوزين بالطُّمأنينةِ، بالرَّاحةِ النَّفسيّةِ وبالسمّوِّ الرُّوحيِّ إذ تشعرين أنَّ اللهَ القويَّ معكِ، ولك … رجاءً اتركي كل ما تعلْمتهِ من عباداتٍ خارجةٍ عن حدودِ دينِ الله وطاعاتٍ وتلبياتٍ لنداءاتٍ غيرِ نداءِ الله، وعودي … بعقلك وإحساسِكِ للانتماءِ إلى معرفةِ التَّكليف وفهمِ الكلامِ الذي اشتمل عليه التَّكليف، فإنَّ من شأنِ المؤمنةِ الصَّادقةِ أن تعلنَ وتجهرَ بفخرٍ لسماعِها للأوامرِ والنَّواهي ولتفهّمها لها، ولكونِها صادقة مع نفسها.
أمَّا القواعد الأساسية للإنصات فهي كالتَّالي:
1- تحضّري بدنيّاً لقراءة هذا الكتاب من هذه السلسلة (جلوساً مريحاً، بعيداً عن الضوضاء، بعيداً عن ما يشغلك عن التركيز، وانفتاحاً وإصراراً على فهم ما تقرئين وادراك أبعاد ما تتعلمين…
2- اقرئي واقرئي بهدوءٍ وتأنٍّ واضعةً إشاراتٍ لما لم تستطيعي فهمَه، لكي تعيدي قراءتَه، مرَّةً أخرى فيفتّحُ اللهُ عليكِ بصيرَتكِ وبصرِكِ.
3- رجاءً ورجاءً حارًّا مخلصاً، إقرئي بذهن منفتحٍ وصدرٍ رحبٍ بعيداً عن الأحكامِ والمفاهيمِ المسبقةِ التي سمعْتِها أو اكتسبْتِها من غيرِكِ في الحياةِ العامَّةِ المرتكزةِ على التَّقليد والعادات، لكي تكوني جاهزةً لتلقّي الأفكارِ الجديدة . لا ترفضي سماعَ نفسِكِ اللوَّامة التي ستحاسُبكِ لأنَّها تريدُ لك سعادةَ الآخرة.
4- رجاءً، رجاءً اكبحي الأنا لديك وتحلّي بالشجاعةِ اللازمةِ لنقدِ نفسِكِ الأمَّارةِ بالسُّوء فتستطيعين بذلك نقد ذاتك ومحاسبتها بعد الانتهاء من قراءتك…
5- ركِّزي على الكلماتِ، توّصلي إلى مفهوم الفكرة وبعدّها إلى تحليلها وربطها وتقييمِها لتصلي في النِّهايةِ إلى أخذِ القرار الصَّائب لمصلحتِكِ في الدُّنيا والآخرة.. وإيَّاك أنْ تتناسيْ أنَّ هناكَ آخرةً ستدومُ وتدومُ وتدومُ.
6- حين تقرئين الكتابَ ضعي نفسَكِ مكانَ الكاتبةِ وتخلِّي عن نفسِكِ وأنتِ تمارسين بحرُّيّةِ الاستماعِ والأنصاتِ والتَّفكّر بأوامرِ اللهِ –عزّ وجل- ونواهيهِ.
7- حدّدي مسارَ شخصيّتِكِ وخطِّكِ في الحياة راجيةً أنْ يكونَ الله فوقَ الجميعِ ومنْ ثمّ الآخرين… نصيحةً صادقةً لكِ، إيَّاكِ أنْ تنسيْ نفسَكِ فهي بحاجةٍ ماسّةٍ لإعادتِها إلى الفطرةِ السَّليمةِ التي فطركِ الله عليها.
الآن هل أنت جاهزةً للانطلاق؟
هيّا بنا نتعرَّف على حقوقِ وواجباتِ المرأةِ المسلمةِ لكيْ نتمكّنَ من الانطلاقِ ولنعتبرَ هذهِ المعرفةَ هي أوَّلُ غذاءٍ تحتاجه روحك التي بين جنبيك لتحلّق عالياً.
([1]) المودودي، أبو الأعلى، المصطلحات الأربعة في القرآن، دار العروبة للدعوة الإسلامية، لاهور باكستان، 3731هـ/ 1955م، طبعت في الشام أيضاً باللغة العربية، ص114 ـ 128.
([3]) رواه ابن ماجه، كتاب: الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له، حديث رقم (4260)، ضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة حديث رقم (4306) [الجامع الصغير، الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة الثالثة، 1410هـ ـ 1990م].
([4]) الميداني، ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة، دار القلم، دمشق، 1416هـ/ 1995م، طبعة أولى، ص202، بتصرق.
([5]) نفسي: سلوك صادر عن إيمان وحرية بالتصرف (سلوك نابع عن النفس).
([6]) ظاهر: سلوك يراد منه رضى الحاضرين (مراع لخواطر الحاضرين).
([7]) الميداني، ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة، ص205، بتصرف.
([8]) المودودي، أبو الأعلى، المصطلحات الأربعة في القرآن، ص93 ـ 95.
([9]) المودودي، أبو الأعلى، المصطلحات الأربعة في القرآن، ص96.
([10]) المودودي، أبو الأعلى، المصطلحات الأربعة في القرآن، ص97.
([11]) المودودي، أبو الأعلى، المصطلحات الأربعة في القرآن، ص99.
([12]) المودودي، أبو الأعلى، المصطلحات الأربعة في القرآن، ص101.
([13]) المودودي، أبو الأعلى، المصطلحات الأربعة في القرآن، ص105.
([14]) الميداني، ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة، ص283 ـ 286.
([15]) الميداني، ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة، ص288 ـ 291.